الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
ثم توفي شاه أرمن سكمان بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط سنة ست وسبعين وكان مكتمر مولى أبيه بميافارقين فأسرع الوصول بمن معه من المماليك واستولى على كرسي بني سكمان. وولي على ميافارقين أسد الدين برتقش من موالي شاه أرمن. وكان البهلوان بن ايلدكز صاحب أذربيجان وهمذان مر بقائد ملوك السلجوقية وقد زوج ابنته من شاه أرمن طمعاً في ملك خلاط. فلما توفي شاه أرمن سار إليها في عساكره فكاتب أهل خلاط صلاح الدين بن أيوب ودافعوا كلاً منهما بالآخر. وسار صلاح الدين في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما. ونزلوا قريباً من خلاط فتردد الرسل من صلاح الدين ومن شمس الدين البهلوان إلى أهل خلاط وهم يدافعون الفريقين. وكان قد بلغه وفاة صاحبها قطب الدين وأن برتقش نصب ابنه طفلاً صغيراً واستبد عليه فسار صلاح الدين إليها وحاصرها حتى تسلمها على الأمان وأقام مكتمر أميراً بخلاط وطالت مدته وجرت بينه وبين صلاح الدين فتن وحروب إلى أن توفي صلاح الدين سنة تسع وثمانين. فأظهر الشماتة به وتسمى عبد العزيز وتلقب سيف الدين وتوفي إثر ذلك والله تعالى أعلم.
قد اختص أقسنقر من موالي شاه أرمن وتلقب هزار ديناري وزوجه ابنته وجعله أتابكه فأقام على ذلك مدة. ثم استوحش من مكتمر وتربص به حتى إذا توفي صلاح الدين تجهز مكتمر من ميافارقين فأمكنته فيه الفرصة فقتله لعشر سنين من ولايته وذلك بعد وفاة صلاح الدين بشهرين واستبد بملك خلاط وأرمينية واعتقل ابن مكتمر وأمه في بعض القلاع والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم هلك أقسنقر صاحب خلاط وأرمينية سنة أربع وتسعين لخمس سنين من ملكة وقام بملك خلاط بعده حجر اشتد قطلغ الأرمني ولم يرضه أهل خلاط فوثبوا به لسبعة أيام من ولايته وقتلوه. واستدعوا محمد بن مكتمر من محبسه وملكوه ولقبوه الملك المنصور وقام بدولته شجاع الدين قطلغ القفجاقي دوادار شاه أرمن وأقام تحت استبداده إلى سنة ثلاث وستمائة. ثم دبر على الدوادار وقبض عليه وكان حسن السيرة فاستوحش لذلك الجند والعامة. وعكف بعد نكبة الدوادار على لذاته فاجتمع أهل خلاط والجند وكبيرهم بلبان مملوك شاه أرمن. وكتبوا إلى أرتق بن أبي الغازي بن ألبي صاحب ماردين يستدعونه للملك بما كان ابن أخت شاه أرمن. وجاهر بلبان بالعصيان إلى ملازكرد واجتمع الجند عليه. و استيلاء بلبان على خلاط وأعمالها ولما ملك بلبان مدينة ملازكرد وأعمالها واجتمع عليه الجند وسار يريد خلاط ووصل أرتق بن أبي الغازي صاحب ماردين لموعدهم ونزل قريباً من خلاط فبعث إليه بلبان أن الجند والرعية اتهموني فيك فارجع وإذا ملكت البلد سلمته إليك فتنح قليلا فبعث إليه يتوعده على مقالته وبطئه. فعاد إلى ماردين وكان الأشرف موسى بن العادل بن أيوب صاحب الجزيرة وحران لما سمع بمسير أرتق إلى خلاط طمع فيها لنفسه وخشي أن يزداد بملكها قوة عليهم فخالفه إلى ماردين وأقام بتدليس وجبى ديار بكر حتى استوعبها وعاد إلى حران. ثم جمع بلبان العساكر وسار إلى خلاط فحاصرها. وبرز ابن مكتمر فيمن عنده فانهزم بلبان وعاد إلى ولايته بملازكرد وأرجيش وغيرها. ثم جمع ورجع إلى خلاط فحاصرها وضيق عليها وابن مكتمر عاكف على لذاته. فلما جهدهم الحصار ثاروا به وقبضوه ومكنوا بلبان منه. ودخل إلى خلاط واستولى عليها وعلى سائر أعمالها وحبس ابن مكتمر في قلعة هناك واستبد بملكها. وكان الأوحد نجم الدين أيوب بن العادل بن أيوب قد ولي على ميافارقين من قبل أبيه إلى خلاط سنة أربع وستمائة وقصد مدينة سوس وحاصرها وملك ما يجاورها وعجز بلبان عنه. ثم ملك سوس وقصد خلاط فبرز له بلبان وهزمه فعاد إلى ميافارقين وجمع واستمد أباه العادل فأمده بالعساكر ونهض إلى خلاط فبرز له بلبان ثانية وهزمه الأوحد وحاصره في خلاط فبعث بليان إلى طغرل يستنجده فانهزم الأوحد أمامهما. وسار بلبان مع طغرل إلى مراش فحاصرها وغدر به طغرل وقتله وسار إلى خلاط فمنعه أهلها فسار إلى ملازكرد فمنعوه كذلك فعاد إلى أرزن. وأرسل خلاط بطاعتهم إلى الأوحد نجم الدين فجاء وملك خلاط واستولى على أعمالها. وزحف الكرج فأغاروا على خلاط وعاثوا في نواحيها والأوحد مقيم بخلاط لم يفارقها. وانتقض عليه جماعة من العسكر بحصن رام وساروا إلى مدينة أرجيش فملكوها واجتمع إليهم المفسدون. وبعث نجم الدين إلى أبيه العادل يستنجده فأمده بابنه الآخر شرف الدين موسى فحاصر حسن رام حتى استأمن إليه من كان به من الجند ورجع الأشرف إلى عمله بحران والرها واستقر نجم الدين بخلاط. ثم سار إلى ملازكرد ليطالع أمورها ويمهدها فثار أهل خلاط بعسكره فأخرجوهم وحصروا أصحاب نجم الدين بالقلعة ونادوا بشعار شاه أرمن وقومه فرجع الأوحد ولاقاه عسكر الجزيرة وحاصر خلاط. ثم اختلف أهلها فدخلها عليهم عنوة واستباحها. ونقل جماعة من أعيانها إلى ميافارقين وقتل كثيراً منهم هنالك. واستكان أهل خلاط بعدها وانمحى منها حكم المماليك بعد أن كانوا مستحكمين فيها يولون ملوكها ويخلعونهم. وانقرضت دولة بني سكمان من خلاط وصارت لبني أيوب والبقاء لله وحده والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وإليه المرجع.
فيما ملكوه من سواحل الشام وثغوره وكيف تغلبوا عليه وبداية أمرهم في ذلك ومصائره قد تقدم لنا أول الكتاب الكلام في أنساب هذه الأمة عند ذكر أنساب الأمم وأنهم من ولد يافث بن نوح ثم من ولد ريفات بن كومر بن يافث أخوة الصقالبة والخزر والترك. وقال هروشيوش إنهم من عصر ابن غومر. وأما مواطنهم من بلاد المعمور فإنهم من شمالي البحر الرومي من خليج رومة إلى ما وراء النهر غرباً وشمالا وكانوا أولاً يدينون لليونان والروم بالطاعة عند استفحال أمرهم. فلما انقرضت دولة أولئك استقل هؤلاء الإفرنج بملكهم وافترقوا دولا مثل دولة القوط بالأندلس والجلالقة بعدهم وملك اللمانين بالتفخيم من جزيرة انكلتره بالبحر المحيط الغربي الشمالي ما يحاذيه ويقابله من المعمور ومثل ملوك إفرنجة وهو عندهم اسم إفرنجة بعينه والجيم ينطقون بها سيناً. وهم ما وراء خليج رومة غرباً إلى الثنايا المفضية إلى جزيرة الأندلس في الجبل المحيط من شرقيها وتسمى تلك الثنايا البردت. وكانت دولة هؤلاء الإفرنج منهم من أعظم دولهم واستفحل أمرهم بعد الروم وصدراً من دولة الإسلام العربية فسموا إلى ملك بلاد المشرق من ناحيتها. وتغلبوا على جزر البحر الرومي في آخر المائة الخامسة. وكان ملكهم لذلك العهد بردويل فبعث رجالا من ملوكهم إلى صقلية وملكها من يد المسلمين سنة ثمانين وأربعمائة. ثم سموا إلى ملك ما وراء النهر من إفريقية وبلاد الشام والاستيلاء على بيت المقدس وطال ترددهم في ذلك. ثم استحثهم وحرضهم عليه فيما يقال خلفاء العبيديين بمصر لما استفحل ملك السلجوقية وانتزعوا الشام من أيديهم وحاصروهم في مصر فيقال إن المستنصر منهم دس إلى الإفرنج بالخروج وتسهيل أمرهم عليه ليحولوا بين السلجوقية وبين مرامهم فتجهز الإفرنج لذلك وجعلوا طريقهم في البر على القسطنطينية. ومنعهم ملك الروم من العبور عليه من الخليج حتى شرط عليهم أن يسلموا له إنطاكية لكون المسلمين كانوا أخذوها من مماليكهم فقبلوا شرطه وسهل لهم العبور في خليجه فأجازوا سنة تسعين وأربعمائة في العدد والعدة. وانتهوا إلى بلاد قليج أرسلان وجمع للقائهم فهزموه وفر " " بلاد ابن اليون الأرمني ووصلوا إنطاكية وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فحاصروه بها وخذلوا صاحب حلب ودمشق على صريخه بأن لا يقصدوا غير إنطاكية فأسلموه حتى ضاق به الحصار وغدر به بعض الحامية فملك الإفرنج البلاد وهرب باغيسيان فقتل وحمل إليهم رأسه. وكان ملوكهم الحاضرون لذلك خمسة بردويل وصنجيل وكبريري والقمص واسمند وهو مقدم العساكر فردوا إليه أمر إنطاكية وبلغ الخبر إلى المسلمين فسافروا إليهم شرقاً وغرباً. وسار قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل وجمع عساكر الشام وسار إلى دمشق فخرج إليهم دقاق بن تتش وطغتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص وأرسلان " " صاحب سنجر وسكمان أرتق وغيرهم من الأمراء وزحفوا إلى إنطاكية فحاصروها ثلاثة عشر يوماً. ووهن الإفرنج واشتد عليهم الحصار لما جاءهم على غير استعداد وطلبوا الخروج على الأمان فلم يسعفوا. ثم اضطرب أمر عساكر المسلمين وأساء كربوقا السيرة فيهم وأزمعوا من استكثاره عليهم " " فخرج الإفرنج إليهم واستماتوا فتخاذل المسلمون وانهزموا من غير قتال حتى ظنها الإفرنج مكيدة فتقاعدوا عن أتباعهم واستشهد من المسلمين ألوف والله تعالى أعلم.
ثم على بيت المقدس ولما حصلت للإفرنج هذه النكاية في المسلمين طمعوا في البلاد وساروا إلى معرة النعمان وحاصروها. واشتد القتال في أسوارها حتى داخل أهلها الجزع فتحصنوا بالدور وتركوا السور فملكه الإفرنج ودخلوا عليهم فاستباحوها ثلاثاً. وأقاموا بها أربعين يوماً ثم ساروا إلى غزة وحاصروها أربعة أشهر وامتنعت عليهم فصالحهم ابن منقذ عليها. وساروا إلى حمص وحاصروها فصالحهم عليها جناح الدولة. وساروا إلى عكا فامتنعت عليهم. وكان بيت المقدس قد ملكه السلجوقية وصار لتاج الدولة تتش وأقطعه لسكمان بن أرتق من التركمان. فلما كانت واقعة الإفرنج بإنطاكية طمع أهل مصر فيهم وسار الأفضل بن بدر الجمالي المستولي على العلويين بمصر إلى بيت المقدس وبها سكمان وأبو الغازي ابنا أرتق وابن عمهما سوع وابن أخيهما ياقوتي فحاصروه نيفاً وأربعين يوماً ونصبوا عليه نيفاً وأربعين منجنيقاً وملكوه بالأمان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وأحسن الأفضل إلى سكمان وأبي الغازي وأصحابهما وسرحهم إلى دمشق وعبروا الفرات. وأقام سكمان بالرها وسار أبو الغازي إلى العراق واستناب الأفضل عليها افتخار الدولة الذي كان بدمشق فقصده الإفرنج بعد أن حاصروا عكا وامتنعت عليهم فحاصروه أربعين ليلة وافترقوا على جوانب البلد فملكوها من الجانب الشمالي آخر شعبان من السنة. واستباحوها وأقاموا فيها أسبوعاً. واعتصم بعض المسلمين بمحراب داود وقاتلوا فيه ثلاثاً حتى استأمنوا ولحقوا بعسقلان. وأحصى القتلى من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد المجاورين بالمسجد فكانوا سبعين ألفاً أو يزيدون وأخذ من المناور المعلقة عند الصخرة أربعون قنديلا من الفضة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة وستون درهماً من الفضة زنته أربعون رطلاً بالشامي ومائة وخمسون قنديلا من الصغار وما لا يحصى من غير ذلك. وجاء الصريخ إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعيد الهروي ووصف في الديوان صورة الواقعة فكثر البكاء والأسف ووسم الخليفة بمسير جماعة من الأعيان والعلماء فيهم القاضي أبو محمد الدامغاني وأبو بكر الشاشي وأبو الوفاء بن عقيل إلى السلطان بركيارق يستصرخونه للإسلام. فساروا إلى حلوان وبلغهم اضطراب الدولة السلجوقية وقتل محمد الملك ألب أرسلان المتحكم في الدولة واختلاف السلاطين فعادوا. وتمكن الإفرنج من البلاد وولوا على بيت المقدس كندفري من ملوكهم. عساكر مصر وحرب الإفرنج
ولما بلغ خبر الواقعة إلى مصر جمع الأفضل الجيوش والعساكر واحتشد وسار إلى عسقلان. وأرسل إلى الإفرنج بالنكير والتهديد فأعادوا الجواب ورحلوا مسرعين فكبسوه بعسقلان على غير أهبه فهزموه. واستلحموا المسلمين ونهبوا سوادهم ودخل الأفضل عسقلان وافترق المنهزمون. واستبدوا بنحر الحمير ووصل الأفضل من عسقلان إلى مصر ونازلها الإفرنج حتى إيقاع ابن الدانشمند بالإفرنج كان كمسكين بن الدانشمند من التركمان ويعرف بطابلوا. ومعنى الدانشمند المعلم كان أبوه يعلم التركمان وتقلبت به الأحوال حتى ملك سيواس وغيرها. وكان صاحب ملطية يعاديه فاستنجد عليه اسمند صاحب إنطاكية فجاءه في خمسة آلاف وسار إليه ابن الدانشمند وأسره. ثم جاء الإفرنج إلى قلعة أنكورية فملكوها وقتلوا من بها من المسلمين. ثم حاصروا إسماعيل بن الدانشمند فلقيهم كمستكين وهزمهم واستلحمهم وكانوا ثلاثمائة ألف. ثم ساروا إلى ملطية فملكوها وأسروا صاحبها. وزحف إليه أسمند من إنطاكية في الإفرنج فهم بهم ابن الدانشمند. فأتاح الله للمسلمين على يده هذا الظهور في مدد متقاربة حتى خلص اسمند من الأسر. وجاء إلى إنطاكية والإفرنج بها وبعث إلى قيس والعواصم وما جاورها يطب الإمارة فامتعض المسلمون لذلك وقلدوه بعد العهد الذي التزمه. حصار الإفرنج قلعة جبلة كانت جبلة من أعمال طرابلس وكان الروم قد ملكوها وولوا على المسلمين بها ابن رئيسهم منصور بن صليحة يحكم بينهم. فلما صارت للمسلمين رجع أمرها لجمال الملك أبي الحسن علي بن عمار المستبد بطرابلس وبقي منصور بن صليحة على عادته فيها. ثم توفي منصور فقام إليه أبو محمد عبد الله مقامه وأظهر الشماتة فارتاب به ابن عمار وأراد القبض عليه فعصى هو في جبلة وأقام بها الخطبة العباسية واستنجد عليه ابن عمار دقاق بن تتش فجاءه ومعه أتابك طغركين فامتنع عليهم ورجعوا. ثم جاء الإفرنج فحاصروها فامتنعت عليهم أيضاً وشاع أن بركيارق جاء إلى الشام فرحلوا. ثم عادوا وأظهروا أن المصريين جاءوا لانجاده فرحلوا. ثم عادوا فتقدم للنصارى الذين عنده أن يداخلوا الإفرنج في نقب البلد من بعض أسواره فجهزوا إليهم ثلاثمائة من أعيانهم فرفعهم بالحبال واحداً بعد واحد وهو قاعد على السور حتى قتلهم أجمعين فرحلوا عنه. ثم عادوا إليه فهزمهم وأسر منهم كبرانيطل وفادى نفسه منه بمال عظيم ثم " " ابن صليحة وجهده الحصار فأرسل إلى طغركين صاحب دمشق. وبعث ابن عمار في طلبه إلى الملك دقاق على أن يدفعه إليه بنفسه دون ماله ويعطيه ثلاثين ألف دينار فلم يفعل. وسار ابن صليحة إلى بغداد فوعده إلى وصول رحله من الأنبار فبعث الوزير من استولى عليها فوجد فيها ما لا يحصى من الملابس والعمائم والمتاع وانتزع ذلك كله. ولما ملك تاج الملوك جبلة أساء فيها السيرة فراسلوا فخر الملك أبا علي بن عمار صاحب طرابلس واستدعوه لملكها فبعث إليهم عسكراً وقاتلوا تاج الملك ومن معه فهزموه وأخذوه أسيراً وملكوا جبلة بدعوة ابن عمار وحملوا تاج الملك إلى ابن عمار فأحسن إليه وبعث إلى أبيه بدمشق واعتذر له بأنه خاف على جبلة من الإفرنج.
ثم سار كبريري ملك الإفرنج من بيت المقدس سنة أربع وتسعين لحصارها فأصابه منهما سهم فقتله فسار أخوه بقدوين في خمسمائة فارس إلى القدس. ونهض دقاق صاحب دمشق ومعه جناح الدولة صاحب حمص لاعتراضه فهزموا الإفرنج وأثخنوا فيهم ثم كاتب أهل المدينة الإفرنج وكان أكبرهم ودخل في طاعتهم. وكان سقمان بن أرتق صاحب سروج جمع جموعه من التركمان وسار إلى الرها فلقيه الإفرنج وهزموه في ربيع سنة أربع وتسعين. وساروا إلى سروج فحاصروهم حتى ملكوها عنوة واستباحوها. ثم ملكوا حصن كيفا بقرب عكا عنوة وملكوا أرسوف بالأمان. ثم ساروا في رجب إلى قيسارية فملكوها عنوة واستباحوها والله تعالى ولي التوفيق بمنه كرمه.
كان صنجيل من ملوك الإفرنج المذكورين قبل قد لازم حصار طرابلس وزحف إليه قليج أرسلان صاحب بلاد الروم فظفر به. وعاد صنجيل مهزوماً فأرسل فخر الدولة بن عمار صاحب طرابلس إلى أمير آخر نائب جناح الدولة بحمص إلى دقاق بن تتش يدعوه إلى معالجته. فجاء تاج الدولة بنفسه وجاء العسكر مدداً من عند دقاق واجتمعوا على طرابلس. وفرق صنجيل الفل الذين معه على قتالهم فانهزموا كلهم وفتك هو في أهل طرابلس وشد حصارها. وأعانه أهل الجبل والنصارى من أهل سوادها. ثم صالحوه على مال وخيل. ورحل عنهم إلى طرطوس من أعمال طرابلس فحاصرها عنوة واستباحها إلى حصن الطومار ومقدمه ابن العريض فامتنع عليهم وقاتلهم صنجيل فهزموا عسكره وأسروا زعيماً من زعماء الإفرنج بدل صنجيل فيه عشرة آلاف دينار وألف أسير ولم يعاوده. وذلك كله سنة خمس وتسعين وأربعمائة. ثم سار صنجيل إلى حصن الأكراد وحاصره " " جناح الدولة لغزوه فوثب عليه باطني بالمسجد وقتله. ويقال إن رضوان بن تتش وضعه عليه فسار صنجيل إلى حمص وحاصرها وملك أعمالها. ثم نزل القمص على عكا في جمادى الأخيرة من السنة فنفر المسلمون من جميع السواحل لقتاله وهزموه وأحرقوا أهله والمنجنيقات التي نصبت للحرب. ثم سار القمص صاحب الرها إلى سروج وحاصرها فامتنعت عليه وزحف عساكر مصر إلى عسقلان للمدافعة عن سواحلهم فزحف إليهم بردويل صاحب القدس فهزمه المسلمون ونجا إلى الرملة وهم في اتباعه فحاصروه وخلص إلى يافا وفشل القتل والأسر في الإفرنج والله تعالى ولي حصار الإفرنج عسقلان وحروبهم مع عساكر مصر لما طمع الإفرنج في عسقلان واستفحل أمرهم بالشام جهز الأفضل أمير الجيوش عساكره من مصر لحربهم سنة ست وتسعين مع سعد الدولة القواسي مولى أبيه. وزحف بقدوين ملك الإفرنج من القدس فلقيهم بين الرملة ويافا وهزمهم. ومات سعد مترقباً عن فرسه واستولى الإفرنج على سواده. وبعث الأفضل بعده ابنه شرف المعالي فلقيهم قي العساكر على بازور قرب الرملة فهزمهم ونال منهم ونجا كثير من أعيانهم إلى بعض الحصون هنالك فحاصرهم شرف المعالي خمس عشرة ليلة وملك الحصن فقتل وأسر. ونجا بقدوين إلى يافا ثم إلى القدس فصادف وصول جمع كثير من الإفرنج لزيادة القدس فندبهم للغزو فساروا إلى عسقلان وبها شرف المعالي فامتنعت ورجعوا. وبعث شرف المعالي إلى أبيه فبعث العساكر في البر مع تاج العجم مولى أبيه والأسطول في البحر لحصار يافا مع القاضي ابن دقاوس. فلما وصل الأسطول إلى يافا بعث عن تاج العجم ليأتيه بالعساكر فامتنع فأرسل الأفضل من قبض عليه وولى على العساكر وعلى عسقلان جمال الملك من مواليهم فانصرفت السنة وبيد الإفرنج بيت المقدس غير عسقلان ولهم أيضاً من الشام يافا وارسوف وقيسارية وحيفا وطبرية والأردن واللاذقية وإنطاكية ولهم بالجزيرة الرها وسروج وصنجيل محاصر فخر الملك بن عمار بمدينة طرابلس وهو يرسل إسطوله للإغارة على بلاد الإفرنج في كل ناحية. ثم دخلت سنة سبع وتسعين فخرج الإفرنج الذين بالرها فأغاروا على الرقة وقلعة جعبر واكتسحوا نواحيها. وكانت لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد منذ ملكه السلطان ملك شاه إياها سنة تسع وسبعين كما مر والله أعلم.
وفي سنة سبع وتسعين وصلت مراكب من بلاد الإفرنج تحمل خلقاً كثيراً من التجار والحجاج فاستعان بهم صنجيل على حصار طرابلس فحاصروها حتى يئسوا منها فارتحلوا إلى جبيل وملكوها بالأمان. ثم غدروا بأهلها وأفحشوا في استباحتها. ثم استنجدهم بقدوين ملك القدس على حصار عكا فحاصروها براً وبحراً وفيها بهاء الدولة الجيوشي من قبل ملك الجيوش الأفضل صاحب مصر فدافعهم حتى عجزوا وهرب عنها إلى دمشق وملك الإفرنج عكا عنوة وأفحشوا في استباحتها والله تعالى أعلم.
كان المسلمون أيام تغلب الإفرنج على الشام في فتنة واختلاف تمكن فيها الإفرنج واستطالوا وكانت حران وحمص لمولى من موالي ملك شاه اسمه فواجا والموصل لجكرمش " " وحصن كيفا لسقمان بن أرتق وعصى في حران على قراجا بأمته فيها فاغتاله جاولي مولى من موالي الترك وقتله فطمع الإفرنج في حران وحاصروها. وكان بين جكرمش وسقمان فتنة وحرب فوضعوا أوزارها لتلافي حران واجتمعا على الخابور وتحالفا ومع سقمان سبعة آلاف من قومه التركمان ومع جكرمش ثلاثة آلاف من قومه الترك ومن العرب والأكراد. وسار إليهم الإفرنج من حران فاقتتلوا واستطردهم المسلمون بعيداً ثم كروا عليهم فأثخنوا فيهم واستباحوا أموالهم. وكان اسمند صاحب إنطاكية وشكري " " صاحب الساحل قد أكمنوا للمسلمين وراء الجبل فلم يظهر لهم أنهم أصحابهم وأقاموا هنالك إلى الليل. ثم هربوا وشعر بهم المسلمون فاتبعوهم وأثخنوا فيهم. وأسر في تلك الواقعة القمص بردويل صاحب الرها أسره بعض التركمان من أصحاب سقمان فشق ذلك على أصحاب جكرمش لكثرة ما امتاز به التركمان من الغنائم وحسنوا له أخذ القمص من " " سقمان فأخذه وأراد التركمان محاربة جكرمش وأصحابه عليه فمنعهم سقمان حذراً من اختلاف المسلمين وسار مفارقاً لهم. وكان يمر بحصون الإفرنج فيخرجون إليه ظناً بنصر أصحابهم فملكها عليهم. وسار جكرمش إلى حران فملكها وولى عليها من قبله. ثم سار إلى الرها وحاصرها أياماً وعاد إلى الموصل وفادى القمص بردويل حرب الإفرنج مع رضوان بن تتش صاحب حلب ثم سار سكري صاحب إنطاكية من الإفرنج سنة ثمان وتسعين إلى حصن أريام من حصون رضوان صاحب حلب فضاقت حالهم واستنجدوا برضوان فسار إليهم وخرج الإفرنج للقائه. ثم طلب الصلح من رضوان فمنعه أصبهبد وصباوو من أمراء السلجوقية كان نزع إليه بعد قتل صاحبه أياز ولقيهم الإفرنج فانهزموا أولاً ثم استماتوا وكروا على المسلمين فهزموهم وأفحشوا في قتلهم وقتل الرجالة الذين دخلوا عسكرهم في الحملة الأولى. ونجا رضوان وأصحابه إلى حلب ولحق صباوو بطغركين أتابك دمشق ورجع الإفرنج إلى حصار الحصن فهرب أهله إلى حلب وملكه الإفرنج والله تعالى ولي التوفيق. حرب الإفرنج مع عساكر مصر كان الأفضل صاحب مصر قد بعث سنة ثمان وتسعين ابنه شرف المعالي في العساكر إلى الرملة فملكها وقهر الإفرنج. ثم اختلف العسكر في ادعاء الظفر وكادوا يقتتلون وأغار عليهم الإفرنج فعاد شرف المعالي إلى مصر فبعث الأفضل ابنه الآخر سناء الملك حسيناً مكانه في العساكر وخرج معه جمال الدين صاحب عسقلان واستمدوا طغركين أتابك دمشق فجهز إليهم اصبهبد صباوو من أمراء السلجوقية. وقصدهم بغدوين صاحب القدس وعكا فاقتتلوا وكثرت بينهم القتلى واستشهد جمال الملك نائب عسقلان وتحاجزوا وعاد كل إلى بلده. وكان مع الإفرنج جماعة من المسلمين منهم بكياش بن تتش ذهب مغاضباً عن دمشق لما عدل عنه طغركين الأتابك بالملك إلى ابن أخيه دقاق وأقام عند الإفرنج والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق بمنه.
كان قمص من قمامصة الإفرنج بالقرب من دمشق وكان كثيراً ما يغير عليها ويحارب عساكرها فسار إليه طغركين في العساكر وجاء بغدوين ملك القدس لإنجاده على المسلمين فرده ذلك القمص ثقة بكفاءته فرجع إلى عكا وسار طغركين إلى الإفرنج فقاتلهم وحجزهم في حصنهم. ثم خرب الحصن وألقى حجارته في الوادي وأسر الحامية الذين به وقتل من سواهم من أهله وعاد إلى دمشق ظاهراً. ثم سار بعد أسبوع إلى " " وبه ابن أخت صنجيل فملكه وقتل حاميته.
كان خلف بن ملاعب الكلابي متغلباً على حمص وملكها منه تتش كما مر وانتقلت الأحوال إلى مصر. ثم إن رضوان صاحب حلب انتقض عليه واليه بحصن أفامية وكان من الرافضة فبعث بطاعته إلى صاحب مصر واستدعى منهم والياً فبعثوا خلف بن ملاعب لإيثاره الجهاد وأخذوا رهنه فعبى " " في أفامية واستبد بها واجتمع عليه المفسدون. ثم ملك " " من أعمال حلب وأهله رافضة ولحق قاضيها بابن ملاعب في أفامية. ثم أعمل التدبير عليه وبعث إلى أبي طاهر الصائغ من أصحاب رضوان وأعيان الرافضة ودعاتهم وداخله في الفتك بابن ملاعب وتسليم الحصن إلى رضوان. وشعر بذلك ابنا ابن ملاعب وحذرا أباهما من تدبير القاضي عليه. وجاء القاضي فحلف له على كذبه وصدقه وعاد القاضي إلى مداخلة أبي طاهر ورضوان في ذلك التدبير وبعثوا جماعة من أهل سرمين بخيول وسلاح يقصدون الخدمة عند ابن ملاعب فأنزلهم بربض أفامية حتى تم التدبير وأصعدهم القاضي وأصحابه ليلا إلى القلعة فملكوها وقتلوا ابن ملاعب. وهرب ابناه فلحق أحدهما بأبي الحسن بن منقذ صاحب شيزر وقتل الأخر. وجاء أبو طاهر الصائغ إلى القاضي يعتقد أن الحصن له فلم يمكنه القاضي وأقام عنده. وكان بعض بني خلف بن ملاعب عند طغركين بدمشق مغاضباً لأبيه فولاه حصناً من حصونه فأظهر الفساد والعيث فطلبه طغركين فهرب إلى الإفرنج واستحثهم لملك أفامية فحاصروه حتى جهد أهله الجوع وقتلوا القاضي المتغلب فيه والصائغ وذلك سنة تسع وتسعين وخمسمائة. خبر الإفرنج في حصار طرابلس كان صنجيل من ملوك الإفرنج ملازماً لحصار طرابلس وملك جبلة من يد ابن أبي صليحة وبنى على طرابلس حصناً وأقام عليها. ثم هلك وحمل إلى القدس ودفن. وأمر ملك الروم أهل اللاذقية أن يحملوا الميرة إلى الإفرنج المحاصرين طرابلس فحملوها في السفن. وظفر أصحاب ابن عمار ببعضها فقتلوا وأسروا واستمر الحصن خمس سنين فعدمت الأقوات. واستنفد أهل الثروة مكسوبهم في الإنفاق وضاقت أحوالهم وجاءتهم سنة خمسمائة ميرة في البحر من جزيرة قبرص وإنطاكية وجزائر البنادقة فحفظت أرماقهم. ثم بلغ ابن عمار انتظام الأمر للسلطان محمد بن ملك شاه بعد أخيه بركيارق فارتحل إليه صريخاً واستخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب في طرابلس. وخيم ابن عمار على دمشق وأكرمه طغركين. ثم سار إلى بغداد فأكرمه السلطان محمد وأمر بتبليغه والإحتفال لقدومه ووعده بالانجاد. ولم رحل عن بغداد أحضره عنده بالنهروان وأمر الأمير حسين بن أتابك قطلغتكين بالمسير معه وأن يستصحب العساكر التي بعثها مع الأمير مودود إلى الموصل لقتال جاولي سكاوو وأمره بإصلاح جاولي والمسير مع ابن عمار حسبما مر في أخبارهم. ثم وقعت الحرب بين السلطان محمد وبين صدقة بن مزيد واصطلحوا وودعه ابن عمار بعد أن خلع عليه وسار معه الأمير حسين فلم يصل إلى قصده من عساكر الموصل " " مودود والانتقاض فعاد فخر الدين بن عمار إلى دمشق في محرم سنة اثنتين وخمسمائة وسار منها إلى. . . فملكها. وبعث أهل طرابلس إلى الأفضل أمير الجيوش بمصر يستمدونه ويسألون الوالي عليهم فبعث إليهم شرف الدولة ابن أبي الطيب بالمدد والأقوات والسلاح وعدة الحصار واستولى على ذخائر ابن عمار وقبض على جماعة من أهله وحمل الجميع في البحر إلى مصر.
|